gooplz

مقبرة الرحمة.. عندما يتحول الموت إلى مصدر عيش

إذا كانت المقابر تذكرنا بالموت، فإن حياة الكثيرين تتمحور حول هذه المقابر. هي حياة  أطفال وغيرهم يشتغلون هناك، لم يسعفهم القدر لكي يعيشوا بين أسر تنفق عليهم دون أن تحتاج لعرق جبينهم، لأن الظروف كانت أقوى من نية ذويهم، إنها حياة متسولين اتخذوا من المقبرة مكان «عمل» لهم، وهي حياة باعة اختاروا عرض بضاعتهم بجانب الموتى ...

أطفال القبور
ما إن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، وتشرق شمس الصباح الهادئة، حتى تعج مقبرة الرحمة بالدار البيضاء بحركة لا يمكن فهمها إلا إذا اقتربت أكثر من المشهد. مجموعة من الأطفال يحملون قنينات من الحجم الكبير مملوءة بالماء، يصطفون أمام المقبرة. يتجمهرون أمام بابها الكبير. يقفون هناك، ونفوسهم بدون شك غير راضية عن وضعهم، خاصة وأن أقرانهم في هذا الوقت من الصباح يتهيؤون  للذهاب إلى المدرسة، مكانهم الطبيعي.
عمر، طفل في العاشرة من عمره، ملابسه الرثة خير عنوان لحالته الاجتماعية، وجهه لم تعد ملامحه واضحة لكثرة ما علق به من وسخ، يحمل بيديه الصغيرتين قطعة من الخبز تنسيه شدة الجوع. وأمامه وضع قنيناته المملوءة بالماء حارسا على ترتيبها بشكل متناسق، وكأنه يتفاخر بترتيبه ذاك أمام زملائه.
  في انتظار زائر متوقع قد يأتي أو لا يأتي، قرر الجلوس هناك بعيدا عن زحمة المكان، وضجيج العباد. جلس القرفصاء يمعن النظر في القبور التي تراصت أمامه ساكنة لا تتحرك كساكنيها. بعد مرور مدة يسيرة بدت علامات النوم واضحة على عينيه الصغيرتين الذابلتين، عبثا حاول الصغير النوم  في تلك الصبيحة، وفجأة انتفض من مكانه وكأن عينيه وقعت على فريسة من المستحيل تضييعها.
 بخطى سريعة ودون التفات اتجه «عمر» نحو سيدة في عقدها الرابع، كل ما كانت ترتديه كان أبيض عدا نظارتها الشمسية، فهي الوحيدة التي كانت باللون الأسود، قصدها عمر وما إن اقترب منها حتى اندفع صوته المبحوح قائلا: «لالة ها الماء باش تسقي قبر اللي عزيز عليك»، سقطت كلمات الطفل البريء على السيدة كالحجر ترجمتها ببعض العبرات التي ذرفتها على خديها، لم تطل السيدة التفكير وأخرجت من محفظة نقودها 10 دراهم ومدتها لعمر مخاطبة إياه «تعالى معي يا ولدي فالقبر هناك....» اختفى عمر والسيدة وسط القبور بين الأعشاب الكثيفة التي كست المكان، ونظرات الأطفال الآخرين تتبع عمر حاسدة إياه على دريهماته العشرة.

أكشاك المقبرة
باحة المقبرة تتسع لأنشطة موازية. فهناك أكشاك اتخذت من الأخضر لونا لها اصطفت بعناية جنبا إلى جنب، تنوعت البضائع المعروضة بين تمر ولبن وفواكه جافة وقنينات ماء الورد، وكل ما يرافق زيارة القبور في العادات المغربية.
ولأن اليوم هو يوم عادي من أيام السنة، فإن المكان يعرف حركية عادية ولا يكاد شيء يكسر رتابته إلا قدوم سيارات الإسعاف التي تأتي حاملة الموتى لدفنهم طيلة اليوم وبدون توقف، وهذا يعني عند هؤلاء الباعة، الذين اختاروا أن تكون المقبرة مكانا لتجارتهم، أن كل موكب جنائزي هو بمثابة فرصة مواتية يجب اقتناصها، وكلما كان عدد المشيعين للجنازة أكبر إلا وكان الربح أوفر، فما إن ينتهي من جاؤوا ليودعوا الميت مثواه الأخير حتى تشتد المنافسة بين الباعة في إبراز جودة ما يقدمونه والظفر بأكبر عدد من الزبائن، فالفرصة قد لا تتكرر وتفسد البضاعة في انتظار من يشتريها.

متسولو المقبرة
المشهد لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود متسولي المقبرة الذين يصعب جرد عددهم، فلا تدري من أين يخرج غالبيتهم، محملين بأكياس صغيرة جمعوا فيها كل ما جادت عليهم به أياد تبتغي أجرا وثوابا، كيف لا والمكان يذكر رواده بالحياة الأخرى.
عالم التسول هو الآخر لا يخلو من مفارقات، فالمتسولون رتب وطبقات تكتسب مع مرور الوقت، فهناك أمكنة لا يجوز لأي متسول أن يجلس فيها إلا إذا كان من المياومين هناك وبانتظام.
 الكل يجلس ينتظر ما ستجود به السماء هذا اليوم من صدقات المحسنين، وما يكاد أحدهم  يضع يده اليمنى في جيبه ليعطي صدقة لا تعلم يده اليسرى قيمتها، حتى يتجمهر حوله كل متسولي الباحة ويتعالي صوت الأدعية «الله يسهل عليك، الله يسر أمورك .....».
في وسط الباحة الخارجية للمقبرة توجد حديقة رغم السياج القصير نسبيا الذي يحيط بها، ومع ذلك فقد تمكن المتشردون من تجاوزه، خاصة أولائك الذين اتخذوا منها مكانا للمبيت وملجأ للاختباء عن عيون المتربصين بهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق